www.parliament.gov.sy
الاثنين, 4 أيار, 2020


العدالـــة الاجتماعيــة ... د. نبيل طعمة

تتطلب من الإنسان أن يصل بقواه إلى قدر من النضج، يقرره رائز العلم بمكنونات الحياة الحديثة، يتفوق على حضوره السابق أو القديم، هذا الذي ملأه الرسل والأنبياء والصالحون وبعدهم الفلاسفة والاجتماعيون، وجميعهم هزموا أمام الصغار من الوظيفيين، الذين صموا آذانهم، ليبقى السعي والبحث دائماً من الكبار، وتبقى الحياة في مجراها، الكل على ما هم عليه منذ أن بدأ التاريخ ينساب على مختلف مساربه وسبله، من دون أن يتحقق العدل، لماذا؟ لأن ما تنشده الإنسانية يحتاج إلى فائض الوعي، أو ما نطلق عليه النضج عبارة عن مصالح شخصية بأضيق معانيها، أهدافها تحقيق مطامع الذات وأنا الفرد من دون الدخول إلى فهم أن الإنسان بمفرده قليل، وهو بحاجة ماسة إلى الآخر، يجتمع معه، ويهتم به، ليتشكل منهما المجتمع، وهذا ما أخفقت البشرية فيه إلى حد كبير وحتى اللحظة المعيشة التي ندقق في مجرياتها، لندرك أننا مازلنا بعيدين كل البعد عن تحقيق العدالة بين أفراد المجتمعات كافة، وأينما وجدت من مركز الجهات الأربع، وصولاً إلى مركزها حيث اللا مركز.

كثيرا ما كتبت وعبر عقود أن الخطر الحقيقي الفريد والوحيد الذي يتهدد الإنسان هو الإنسان نفسه، والسبب في ذلك أنه عجز عن استخدام تفكيره، الذي بلغ مستويات أكثر من مهمة في التطور استخداماً اجتماعياً فعالاً، وذلك نتيجة لخوفه وتحيّزه وتعصبه لذاته وللكراهية القادمة من حب التملك وحمايته والسيطرة على الآخرين بدلاً من التعاون معهم.

 هل تؤمنون معي بأن الحق واحد، لأن مصدره واحد؟ هل ساعد هذا المنطق في تحرير العقل البشري وتحويله إلى إنساني؟ أم إنه زاد من ظلم البشرية لبعضها، فأغرتهم المطامع بعد أن رفعوا المعتقدات ومبادئها السامية إلى الأعلى، وانحدروا إلى الأسفل، أو ساروا تحتها، فلا هم تمسكوا بها، ولا هي أنقذتهم، ليظهر عجزهم الكلي في الإيمان بأسباب وجودهم مظهرين الهزائم الروحية في ميادين الواقع المتحرك بلا هوادة، والممتلئ بالشهوات.

هل وصلت البشرية إلى إدراك أن عليها أن تنقذ وجودها، وهي التي تمتلك من المبادئ السامية ما لا يعد ولا يحصى؟ وهل استطاعت أن تحرر عقولها من الخلط والاضطراب؟ فعندما ندقق في حركتها وأفعالها نجد أنها تعمل بلا معايير أخلاقية غير مستفيدة من القوانين الوضعية، ولا حتى من الحكم الإلهية، ونجد أن الكل يدّعي أو يسعى من أجل السيطرة والسيادة، والكل داخل في أتون المنافسة ومستعد للتطاحن، ما يظهر حجوم الفوضى العقلية المادية والروحية في آن، وأيضاً يتكشف للعاقل عن فوضوية الفكر في الارتكاز على مفهوم المَثَل الأعلى، الذي ينبغي للإنسان أن يسعى لتحقيقه وبلوغه، مستعيناً بما أوتي من قوى ومواهب، فهل المثل العليا سِرُ غامض يستعصي على البشرية فهمه، فتقف أمامها قاصرة عاجزة مما يسهل الحط من قدرة العدالة وإمكانية تحقيقها؟

العدالة الاجتماعية تمثل كرامة الإنسان التي يجب أن يحافظ عليها، والتي لا تتحقق إلا عن طريق الروابط الإيجابية التي يكونها مع الآخر، الذي ينمو في البيئة ذاتها والمنحى ذاته، وأكثر من منطقي وواقعي أن الإنسان لا يقدر أن يحيا في عزلة مهما بلغ من قوى، لذلك أجد الآن أن أهم مشكلة تواجه البشرية تكمن في العدالة التي تبحث عنها المجتمعات، هذه التي يجب أن تبنى ضمن ثلاثية المدارس الأسرة والمجتمع والتعليم الذي تختص به الدولة من خلال مدارسها، التي أعتبرها الأهم بحكم أنها القادرة على تنمية عناصر الخلق والإبداع الذي تحتاجه الحياة، والمدرسة قادرة على أن تكون شيئاً عادياً، أو أن تكون كل شيء، فوظيفتها الرئيسة كيف تنهض بالأجيال عبر تطوير التحضر وإنشاء الحضارة بعد فهم المعاني مع إدراك الجمال وخلقه والاستمتاع بوجوده، أما إن بقيت هذه المدارس تتبع أساليب الحفظ الآلي الذي يؤدي إلى ظهور الشخصيات الوظيفية، هذه التي لا يمكن لها أن تدرك معاني العدالة الاجتماعية، لأنها تبحث في ذاتها وأناها، وللأسف هذا هو الحاصل في جميع المجتمعات، ولدى كل الأمم، التي نراها تتقبل الأزمات بحكم هجرهم للإبداع، واعتناقهم التقليد، وتفاعلهم مع النقل، من دون القدرة على الانتقال نحو الأفضل على أسس سليمة.

العدالة الاجتماعية تحتاج إلى وعي ديني يمثل النضج بما يعنيه؛ أي في الواجبات الشخصية والواجبات العامة، وهذه فيما أرى مسؤولية كبرى تقع على كواهل رجال الدين والمفكرين غير التقليديين والساسة، لأنها إن لم تعتنق الحق بإيمان حقيقي فسيكون دورها مخرباً في البناء الاجتماعي، فالعقل البشري يحتاج إلى تطوير النضج الإنساني، ومن دونه تبقى لديه غريزة دائمة يطلق عليها شرعة الغاب، حتى وإن لبس لبوس التدين، فإذا امتاز الإنسان عن غيره بأنه عقل يسير في طريق المعرفة وبحثه المستمر للاستزادة منها، فيكون بذلك سائراً تحت مظلتي الدولة والدين، هذان المسؤولان عن تحويل الإنسان من الغابية المالكة للغة أريد من دون توقف، إلى النضج الإيماني بأن الحياة أخذ وعطاء، تشارك وبناء، هذه وحدها تأخذ الإنسان من تركيز الاهتمام حول الذات إلى صبه على المجتمع والعالم بأكمله.

وبما أن المبادئ الأساسية للأديان قامت على التحريم والفسح وإثارة مشاعر الخوف من العقاب بدل نشر الحب، وأن الثواب في الآخرة اللا منظورة، ما أخّر المجتمعات التي تعلقت بهذه المبادئ، وأبعدها عن استكشاف ما لديها ولدى محيطها من العالم الذي تحيا فيه، وهنا أجد أن فهم وإفهام الأديان على أنها تربط الإنسان بكل مكوناته بالإنسانية والاهتمام النوعي والإيجابي بحاجات وحقوق الآخرين ونشر الإيمان الدقيق من أهم شروط تحقيق العدالة الاجتماعية، وفي هذه الحالة تتحقق وحدة الدين مع العلوم الإبداعية، وأهمها علم الفلسفة. ابحثوا معي في شقاء الإنسان، ولماذا يذهب طوال حياته إلى شقاء، الفقير شقي، والغني شقي، والسبب الأنا والشهوة التي لا تتوقف، وبسببها فقط يشقى الإنسان، ولا يمكن للإنسان أن يهدأ ويسكن ويكون شريفاً إلا إذا استشعر الرحمة تجاه أخيه الإنسان، وتجاه المخلوقات جميعاً، كيف بالإنسان يبغض من لا يدين بدينه، أو يلتحق بمعتقده، أليست هذه الأنا وقمة العنصرية.

للأسف إن مظاهر الحياة أخذت ترينا توجه الإنسان للقوة، وكيف بالسياسة والأديان تؤيدها، وكأننا نعود إلى عصور الظلمات، على الرغم من أنهما مطلبان رئيسان لكل إنسان، لكي يتحولا إلى أدوات تسلط وانتقام واستعباد، وهو الحاصل المتابع الآن على وجه الأرض، وهنا لا أنفي بحق الإنسان بامتلاك المال، لأنه وسيلة أكثر من مهمة لاستمرار الحياة، ولا منعه من تطوير قواها، شريطة عدم الضغط على الآخرين بها، وإلا تكن العدالة قد وضعت في منفاها الذي يضعف البناء الإنساني، وتتفكك المجتمعات، وهذا ما تسعى إليه، فتنتهي من دون الوصول إليها، وإذا لم تنهض الطبقات العليا بأبعادها السياسية والاقتصادية والدينية بإنماء العقل والتفكر باتجاه قدسية الحياة الإنسانية والاجتماعية والاتجاه لتحقيق بعض من التوازنات بين الطبقات ورؤيتها بأعين باصرة، فالعدالة لن تكون ضمن سماها، وستبقى المجتمعات والأمم تائهة بين التسلط والاشتهاء، والقنص والاعتداء.

العدالة الاجتماعية تعني حق العمل وتكافؤ الفرص والإقامة والتملك والاستثمار والانتقال والاتجار وحرية العبادة وحرية الفكر العاقل والظفر بحياة مقنعة والاستمتاع بالحب، وبمستوى يليق بحياة الإنسان بكرامة وحضارة وتقدم، فهل هذا ممكن؟