مجلس الشعب السوري
اسم المستخدم
كلمة المرور
نسيت كلمة المرور
تسجيل جديد
 الرئيسية 

هندسة الوعي... د. نبيل طعمة

الأربعاء, 23 تشرين الأول, 2019


التنظيم الواقعي المتكامل والمترابط لا الفوضوي يؤدي إلى النجاح في الحياة، شريطة أن يؤمن بأن الإنسان الذي لا يتغير غير قادر على التقدم، وهذا ما يدعونا إلى فهم خوض معارك الحياة، والاقتناع بأن لكل حيّ عليها فرصته التي تسجل حضوره، شريطة ألا يحتكر المال والجنس والغذاء واللباس وامتلاك فكرة أن الإنسان بمفرده قليل، وتعزيز ودّه بمشاركة الآخرين يؤدي به إلى إحراز النجاح، رغم أن إيمان أي فرد لن ينال الناس جميعاً، وأنهم متشابهون في خماسية الحواس المادية، واختلافهم في حاستي النطق والتفكير العاقل اللا ماديتين، رغم أنهم من منبت إنساني واحد، فإما هم إخوة بحكم تشابه البناء الجسدي أو أقارب، وإما أبناء أمة واحدة مهما فصلت بينهم الجغرافيا، وهنا أجدني أفرّق بين معارك الحياة التي أعتبرها أكثر من مهمة للنجاح الإنساني، والحروب التي أعتبرها مهنة آكلي اللحوم الشرهين لتدمير الماء والهواء والتراب التي هي عناصر الحياة.

أين نحن كمجتمع من فرضية النجاح الاجتماعي؟ فإذا دققنا ظهر لنا تفاوت مذهل بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي، اقتصاد بلا قواعد، كمن يؤسس على ملحٍ أفكاراً تائهة، تؤدي إلى الانفلات وإلى علاجات طارئة أو حلول جزئية غامضة، تهدر الوقت رغم وجود محاولات صناعية فردية أو قادمة من الدولة، ومناطق صناعية أو تجارية ضعيفة لا تمتلك أيَّ شكل عصري أو حضارياً أو بحوثاً علمية لا تصل إلى مبتغاها، وهذا ما يشهد لنا أننا لم نستطع أن نبني اسماً صناعياً، أو نفاخر في منتج ننافس به الآخر، لأن  الجميع يؤمن بالمؤقت، والربح السريع لا بالديمومة ودخول ذاكرة التاريخ، وهذا جزء من فكر المنطقة الذي أُسسَ أبناؤه عليه، ناهيكم عن مساحات ريفية شاسعة، لا يمكن مقارنة ما يوجد عليها من إنسان وأدوات حتى مع عصور القرون الوسطى، رغم وجود مئات الآلاف من العمال والخريجين الجامعيين والمهنيين، وملايين الريفيين الذين لم تقدم لهم التكنولوجيا، ليظهروا وكأنهم أبناء تلك العصور، أو في أحسن الحالات كوظيفيين وتقليديين، لماذا؟ لأن من يديرونهم مازالوا لم يؤمنوا بضرورات التطور الواقعية وحتمية مواكبة المسيرة العلمية التي تقدم كل يوم جديداً، حيث تفيد البشرية كل هذه المعطيات.

تولد أسئلة هل نحن مجتمع صغير غير قادر على إحداث الفارق مع المجتمعات الأخرى؟ أم إننا مجتمع مستعمر في عقله، منقسم على نفسه، غير متصالح مع ذاته، وأي مجتمع عقله لا جغرافيته مستعمر تتداعى عليه الأمم، لتمسك بزمام أموره، وتشرف عليه ليغدو بين نار استعماري العقل والأرض، وهنا أيضاً أميز بين جغرافيا يقودها مجتمع يبدع فيها، ومجتمع يقوده عقل الاستعمار بدراية منه، أو من دونها، وهذا يوضح لنا كثيراً مَن الذي يحصل على أرض الواقع، فبدلاً من استحضار الوعي والعمل الحثيث على هندسته، أي تحويله من هاوٍ فوضوي يتحرك بلا أهداف ويبني كعشوائيات، إلى عقلاني واقعي، يظهر كفنان معماري أنيق ومتماسك، ويعلم ما يريد، والسائد في عقول مجتمعنا أنه جاهز دائم لخوض ثورات وحروب على بعضه، بدلاً من قيامه بثورات فكرية تقضي على التخلف والبدائية والماضوية، فمن أجل الوصول إلى التطور وتحقيقه، وجدناه يتعلق بتلك الأفكار، منجزاً في غفلة أو معرفة من بعض المهتمين المستفيدين من هذا التخلف بثورات أكلة لحوم البشر وهتك الأعراض، وتدمير ما كان ممكناً أن يكون نواة للتطور والتحضّر والتقدم.

الحياة تسير منفتحة بشكل خاص أمام إنسانها، ليجري فيها ضمن نظم تحددها الحكومات التي ترسم المسارات الاجتماعية، التي يجب أن تتناول كل مجالاتها، وتأخذ من مجتمعاتها ما يتوافق مع نظم إداراتها التنفيذية والتشريعية والعسكرية والسياسية، وبها يحدث التباين والنجاح والتفوق أو الضعف والانفلات والتقهقر، فنظرية نجاح حياة مجتمع تؤكد نجاح الدولة بعد أن تتوافر له المعارف العلمية والإدارات الناجحة، التي من خلالها يتم الحكم على نجاح الحياة الذي يولد توءمة حقيقية بين مفاصل الدولة، وينجز لها شعبية ذات ديمومة حقيقية لا وهمية، وبها فقط تتحقق الانتصارات عبر المعارك الداخلية، التي إن أنجزت مهامها تبعد الأعداء، وتحول حروبهم إلى الخارج عنها، فالأخطاء إن تراكمت تستدرج العدوان، وتسهل له الدخول ليس من النوافذ، وإنما من الأبواب، لأن الالتهاء بالغنائم يؤدي إلى توالي الهزائم، وعلاج هذا في تطوير إرادة ربط مصالح الندرة بمصالح الكثرة ومتطلبات الحاضر المستعجلة بمصالح الغد التي يجب الوصول إليها، شريطة أن تكون مخططاتها معدة مسبقاً، فالظروف والأوضاع التي نتحدث عنها بأنها سيئة ليست وليدة أو متكونة من واقع معيش، إنما نتاج تراكمات تجمعت وتفاقمت، لتظهر بما هي عليه، وهنا أجد أن خلق المبادرات لا ينبغي أن يكون نتاج تخيّل محض، لكونه أمراً حسياً مادياً، تنجز في العقل المتابع الباحث عن التطور الحقيقي.

هذه القضية قد تبدو سهلة لأول وهلة وصعوبة الوصول إليها في إبقائها صعبة، فحياتنا المتبدلة نتاج عدم هندسة الوعي، التي نحياها اليوم، تفرض علينا أن نتجه إلى التنظيم والانتظام لتحقيق الاستقرار النسبي، الذي يضع ركائز للاستقرار الدائم، فإذا كنا نمتلك الآن دولة بسيطة، فعلينا التمسك بها، لأن معاركها مع النجاح مستمرة، وعلينا الإسراع في استعادة الدولة الكبيرة القوية.

 لقد أنفقنا من الزمن الكثير ونحن نسير إلى الوراء، أكثر مما أنفقناه في معارك البناء الذاتي المادي منه واللامادي، فالتاريخ المدوّن للنجاح لا تصنعه الشعوب، إنما غيرة واندفاعة النخب التي تطمح إلى خدمة الحياة، وبالتالي تقديم الأفضل لشعوبها.

الإرادة الواعية الراغبة في المنافسة الإيجابية تمتلك غاية تعزيز وتطوير ثقافة السلوك العام، بهدف وأد أي صراع عقائدي أو ديني أو إثني، وإلغاء التطاحن المناطقي والعشائري القبلي، من خلال بناء لغة الوطن والمواطنة، لأن تاريخ منطقتنا تاريخ متداخل، يجب التصدي له بعجالة، لأنه متجاوز على ما يحمله فكر أبناء المنطقة، حتى الحداثيون والعلمانيون منهم، بحكم سكنهم فيه، فالبيّن أن كثيراً من الطبائع المسكونة في القلوب والعقول الواهية تحسب أن الثبات على التاريخ يعرقل المشيئة المتطلعة إلى الأمام، الداعية إلى تطوير الفكر وأساليب العمل، وهنا علينا أن نفرق بين العقل والوعي، فإذا كان العقل يخصّ الفرد فالوعي يجب أن يشترك مع الجميع، فالعقل مركز التفكير، والوعي إطاره وبصره، ويصل إلى مرتبة بصيرته، فكيف بنا لا نعمل عليه ونهندسه؟ ولطالما أثبتت التجارب أن التخصّص جامد، إن لم نؤطره بالوعي، الذي يتقارب ويلتقي مع المعرفة، فكيف بنا نقضي على الجهل؟ أليس برفع نسبة الوعي الذي يستخدمه البعض في عمليات التجهيل، حينما يراد أن يكون ذلك؟

هندسة الوعي تؤدي إلى تحقيق مبدأ المساواة، فهي تركز على التساوي أمام القانون والسلطات المديرة وفرض الضرائب والتكافؤ في الحقوق، الذي لا يعني المساواة في الاجتهاد، حيث لكل مجتهد نصيب، فإذا كانت الدولة تضمن الحقوق والحريات وتؤمن فرص العمل، فإن على المواطن إدراك ما له وما عليه، وهذا لا يصل إليه إلا بعد امتلاكه الوعي الإيجابي، الذي يتطور مع تسريع الدولة لنظم التنمية في الاقتصاد والثقافة، وبهما تلغى الطائفية والتبعية، ويفسح المجال لالتحاق الموهوبين بالدولة، وما تتبناه وتسعى لتوطيده، ما يسهل تنامي الوعي السياسي الضروري للأفراد، وبه يتم تطوير العلاقة بين الفرد والمجتمع، والمجتمع والدولة، وتظهر الحماية المتبادلة التي يسعى إليها الكل، ومن خلال هذا الانصهار تتجه الدولة بوعيها الكامل إلى آفاق التطور، ممسكةً نواصي المستقبل بقوة وإيمان.



عدد المشاهدات: 7456

طباعة  طباعة من دون صور


رزنامة نشاطات المجلس
للأعلى