مجلس الشعب السوري
اسم المستخدم
كلمة المرور
نسيت كلمة المرور
تسجيل جديد
 الرئيسية 

الجِنان ليست للضعفاء .. د. نبيل طعمة

الأحد, 29 تشرين الثاني, 2020


الكون كلٌّ متحدٌ بكل ما فيه من عوالم، أما عالمنا البشري فهو منقسم إلى عوالم ومجتمعات وطبقات وأفراد متناقضة، والتناقض يعني وجود طرفين أو أكثر، وأجزم أنه شرط رئيس لوجود البشر، كيف يسير؟ هو ما دعاني لأخطَّ فكرة عن بداية العالم الذي كان بلا حدود، رغم أنه ومنذ أن بدأت الحياة الإنسانية أخذ الإنسان على عاتقه بتسوير وجوده، هذا الذي اعتبره بداية الانقسام والفصل والانفصال عن الآخر، إلى أن وصل إلى مرحلته الراهنة، التي ظهرت معها الحدود والسدود والحواجز الثابتة والطيارة، وغدا اجتيازها صعباً، بل وصل في بعض منها إلى الاستحالة.

المتأمل في حركة الحياة يعلم أنها أرض واحدة وإنسان متماثل، ويحق للجميع أن يسأل: لماذا وصلنا إلى ما هو عليه من انقسامات؟ والجميع يدرك أن البيت الواحد إذا انقسم خرب، فكيف بالبلدة والمدينة والدولة، ومن ثم الدول؟ هذا الانقسام المستمر الذي تكوّن نتيجته سرطانٌ يأكل الأخضر واليابس، ويلتهم الحي والميت، وأول ما يستهدف استقرار الإنسان، ومن ثم استقرار الدولة، وبعد ذلك العالم برمته، فهل يدرك المرء علائم انهيار بيته الداخلي، قبل أن يتابع الخارجي، ويبدأ سريعاً في علاج الأسباب قبل تفاقمها؟ ربما لا يقدر أي إنسان على قراءة المؤشرات الدالة على ذلك الانهيار، لكنه مؤكد أنه يراها، وهذا ما يتطلب تدخلاً من الناضجين فكرياً لبيان ما يحدث إن أردنا النهوض بالإنسان وإدخاله إلى عالم الجنان بدلاً من التوسع الحاصل في مساحة الجحيم.  

هل وجود الفكرة المتخلفة عن الجسد الإنساني ذي الشكل المستطيل أفقياً وعمودياً رغم أن البعض يأخذ الشكل الأسطواني، وهذا الإنسان لا يمتلك الحدود أو الشواطئ، بل يمتلك نقطتي تداخل، جعلته مستمراً، ومنحته التفكير بالتسوير خوفاً من الاعتداء أو الاقتحام، فأحدثت في حياته عرقلة مسيرة وفوضى هائلة حول التملك في تفكيره، وجعلت في عقله توقاً واشتياقاً لوحدة الإنسان والأرض مع الواجد والموجود، وأخذت به إلى أمنية لحظية، يقارب بها هزة الجماع التي تتلاشى فيها فكرتا الأنا والخلود من خلال تجميد الزمن وغياب الأنا، فيحصل الإنسان خلالها على رؤية واضحة لتلك الأمور العالقة في ذهنه، بعد أن يجد جسده مجرداً من كل شيء، ما يعيده إلى التفكّر في ذاته القديمة الجديدة، وكيف يجددها رغم فقدانه لطاقة مهمة، إلا أنه يربح فيها ومضة المشتاق للحياة، ويمسك بذلك الضوء المتجه إلى مكامن الرغبة في الحياة، مع وجود هواجسها ومنغصاتها، لكنه يصرُّ على التقدم من جديد، معتبراً أنه ابن التجربة وخوضها أكثر من ضرورة له، وإلا فهو آيل إلى نهاية اعتيادية، مثله مثل المخلوقات التي تذهب إلى الفناء من دون فائدة.

أجزم أن التعاليم التقليدية تفسد الإنسان، لأنها تؤدي إلى زيادة الانحصار وتشديد الانفلات، فإذا لم تفتح النوافذ والأبواب ضمن حكمة التطلع إلى أن الحياة تمتلك كل يوم جديداً، فالوهن والضعف يحل في العقل، ما يبدد الطاقات، ويحول الحياة إلى جحيم، هذا الذي نراه في يومنا الراهن، فالجنان تخصّ المتطلعين إليها والعاملين بجد للوصول إليها، بعد أن يتخلوا عن جحيمهم، لأن الإنسان هو المالك لفكرتي الجنة والنار، وهو الذي يختار منهما ما يتعلق به.

 ألا تؤمنون معي بأن إنساننا الحالي خرج عن المعقول من خلال ابتكاره وإبداعه في كثير من الماديات المغرية التي رافقتها خدع الإبهار والإصرار على التفاعل معها، مع أنها كذبة كبرى تزيد في جحيمه، وترميه في مستنقعها الممتلئ بالسموم والخطيئة. وهنا أجدني أستعين بكم للبحث عن فتح أبواب جديدة للحياة ضمن هذه الأسوار الصادمة والصامتة، التي تظهر للجميع أنه كلما تقدم الإنسان واتسعت مداركه وانفرجت علومه وتحسنت وسائل حياته، قلت حماسته لتطوير ذاته، وضعفت حماسته باتجاه إنسانية الإنسان التي تدعو لتكامل الجنس الإنساني، فلم نعد نشهد سوى ثقافة التفرقة والعنصرية والمنع وزيادة التسوير والتحصين وضغط الأقوى على الضعيف، وهذا بحدّ ذاته يثير الدهشة، أما الفلسفة القائلة إن الإنسان كلما ازداد معرفة بقدراته وبالكون الذي يحيط به ازداد إنسانيةً وهدوءاً وحباً للحياة وما فيها، وإن لكل سؤال جواب واحد يحمل الصح أو الخطأ، أما إذا تعددت الأجوبة فتكون مضيعة للوقت، وإذا كان لابدّ لأي حدث من بداية فإني أسال عمن يحدد بدأها، ومن يختار انطلاقتها الأولى، ويقف إلى جانبها، يحركها بإرادته أو مرغماً عليها.

هل فقد العالم الأمل في بناء الإنسانية المسكونة في الجنان، ومن ثمّ تدخله إليها؟ أم إنه يدخل نوبات ترددية تجعله يقترب منها، وسرعان ما يعود إلى التغلغل في جحيمه، لتبعده بسبب ضعف قراره وجرأته واستسلامه لما هو عليه.

 ما أسباب تدهور الأحوال الإنسانية إلى درجة الصفر؟ هل السبب الحدود التي حولت الدول إلى سجون كبيرة؟ ولذلك تكاثر الفساد، وغدا الأمل ضعيفاً في الإصلاح، وهذا سببه في رأيي تسارع الشكوك حول جدوى التقدم الهائل في الوسائط التكنولوجية، وهل سيستمر هذا التقدم وإلى أين؟ وعلى حساب من؟ لأنه يعتبر المعقد الأول لنظم الحياة التي يفترض أن تتجه للتبسيط.

 أين الاتزان والالتزام أمام التوحش العلمي والمادي والجنسي والديني؟ هل تظنّون أنّ عالمنا الكلي ساكنٌ أو مستسلمٌ لأقداره الصعبة والمركبة عليه؟ وأنه غير قادر على تفكيكها، وأنه في لحظة ما قادمة قادر على إعادة بنائها، وبالشكل الذي يريد، فما مرّ به من تجارب وعبر حقبه المتعاقبة تمنحه أملاً هائلاً بالانقلاب على واقعه مهما بلغ من شدة وسوء، لأن الإنسان أولاً وأخيراً سينحاز إلى الإنسان، الذي من دونه يغدو لا شيء، وهو الموجود في كل مكان من تفضيل عرق على عرق، أو هوية على هوية، أو دين على دين، أو دولة على دولة، أليس كل ما نشهده في يومنا الحاضر يعزز الفرقة والإقصاء والعنصرية رغم ما يتشدق به القائمون على إدارة العالم؟ ألا يظهر كل هذا أنه لعبة دقيقة؟

 الأجيال القادمة إلى الحياة أصبحت تنكر الأشياء المبهمة؛ الأديان.. السياسة.. وتسعى إلى الانعتاق منها، لأنها تعتبرها مستمرة في بناء الأسوار فيما بين الإنسان والإنسان، وأن شعورهم بهزلية الحياة ما هو إلا تعبير غير معرف حتى الآن عن وحدة الإنسانية والوجود، وأن الحياة جزء لا يتجزأ من هذا الكون، ولذلك نجدهم مطالبين بالصدق بدلاً من القمع، وبالتعلم والتأمل والعمل لتحقيق الأمل، فالحياة للذي يعتقد أنها أفلست لم يمتلك المعرفة بها، فهي الغنية الخلاقة، وكما أبهرت في كل عصر، فإنها قادمة لتقديم الأفضل، فمساحة العقل هي مساحة الجنان التي تقدر بمساحة الكون، أما مساحة الجحيم فهي ضئيلة، لأنها ضمن الإنسان ليصورها هائلة، إلا أنها وحدها التي تأخذ به إلى الهاوية.

الجنان والكل يعرفها هي القلب والعقل، فمن لا يستطيع فهمهما ولا يدرك ماهيتهما يكن من الضعفاء؛ أي السائرين ضمن الركب، من دون معرفة الوجهة، أو أن يستوعب إلى أين، والعرف العلمي يقول: الإنسان بأصغريه عقله وقلبه، على خلاف العرف الاجتماعي الذي يتحدث القلب واللسان، لأن اللسان هو أداة النطق، ومن دون إدراك ماهية العقل والقلب يغدو الإنسان حتى وإن تكلم مثل الأبكم، هذه الجنان التي يمتلكها الإنسان إن لم يدرك منهما حياته تأخذاه للعيش ضمن جحيمه الخاص، الذي إن دخل إليه يتحول محيطه إلى جحيم، حتى وإن كان في الجنان.   

د. نبيل طعمة



عدد المشاهدات: 6405

طباعة  طباعة من دون صور


رزنامة نشاطات المجلس
للأعلى