مجلس الشعب السوري
اسم المستخدم
كلمة المرور
نسيت كلمة المرور
تسجيل جديد
 الرئيسية 

الدكتور نبيل طعمة يكتب : أمريكا.. العميقة

الأربعاء, 24 كانون الثاني, 2024


مازالت على حالها، ولكن، هذه المرة، عادت الكُرة إلى ملعبها ودخلت شباكها، فانكشفت أطرافها التي بدأت تتآكل، وبتسارع قل نظيره، فهي التي كانت تنجز المخاطر وتُنبئنا بالآتي من المستقبل، مرعبة بذلك العالم بأسره، فكل ما يدور اليوم في العالم صناعة أمريكية يعكس بجلاء واقع التحدي العالمي لهذه الدولة المسماة بالعميقة، العالم ينتظر أن يكون عام 2024 نهاية الحروب والانتقال إلى البناء الذاتي، بعيداً عن الأمريكي، وهذا الأمر يتوقف على القدرة الأمريكية التي ينبغي أن تتجه إلى تقليص مساحات الصدام القائمة والممكنة في الواقع، الملتهبة والمهيأة للاشتعال، لأن ثقافة هذه الدولة قامت على مبدأ رمي الفتن وإشعال الحروب، ومن ثم تأجيجها بحسب ما تقتضيه مصالحها من بعيد وبأدوات تستثمر فيها، فتقدمها أو تنهيها بحسب حركة النتائج.
الواضح اليوم أن الفخامة الأمريكية النادرة تحولت إلى الشعبوية الخاصة بها، ليس نتاج مشاركتها في الأحداث والحروب؛ بل تصريحاتها وانغماسها فيها حتى النخاع، هذا مؤشر، والدليل الأهم يكمن في تعرض الديمقراطية التي امتازت بها أمريكا والغرب، عموماً، منذ نشأتها أو مع قيام الثورة الصناعية وظهور مبادئ الليبرالية الأولى التي توافق معها العديد من بلدان العالم، إلى التهميش والاعتراض نتيجة إدخال تعديلات جديدة عليها، وغذت الليبرالية الجديدة التي اعتمدت في العقدين الأخيرين مساراً رفض، حتى في المجتمع الأميركي نتاج اختراقه للقيم والمبادئ المحددة في المقدسات والأعراف الإنسانية، هذا الرفض والتهميش يتناوله الغرب ذاته والذي تتزعمه أمريكا، فكيف بالشرق منبع العادات والقيم والتقاليد، ومعه يتطور الرفض في عالم الجنوب.
أمريكا العميقة بنت عمقها من عنصرين كانا أساس وجودها، وهما الماضي الاستعماري والتقدم التقني الذي أدى إلى إنتاج التكنولوجيا العسكرية الفائقة والفائضة، ولولا دعم هذين العنصرين بالعنصر الأهم وهو الديمقراطية البرلمانية ونشره في الغرب كله، والذي غطى على العنصرين المذكورين، لكان الغرب وأمريكا يحملان الآن صفة البربرية والهمجية، وهذا ما عممته على أكثر من دولة خارج الغرب، استمدت ذات الصورة واستعانت بغطاء الديمقراطية، ومنها إسرائيل وأوكرانيا وتايوان، بشكل خاص، إضافة إلى العديد من الدول غير الواضحة المعالم، لذلك أجدني أخوض معكم غمار هذا البحث الذي أدافع  فيه عن الإصلاح والتحصين وضرورة التنبه من القادم، وبه أدعو الأمريكي لإنقاذ ذاته قبل العمل على إنقاذ العالم، فحركة التاريخ تحدثت عن انتهاء أعظم الامبراطوريات نتاج تصلفها وتكبرها وعنصريتها، لذلك أدعو للعودة إلى إحداث التوازن القطبي، لأن الفردية المفرطة تؤدي إلى الهاوية لا محالة، فالأمريكي، ونتاج تفرده، بعد انهيار القطب السوفييتي، حوّل العالم إلى أزمة تفرعت عنها أزمات، فغدا هذا العالم منهكاً اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً ودينياً وعسكرياً، والذي عملت وتعمل عليه الدولة الأمريكية، وما هو إلا نشر للكراهية، الأمر الذي سينعكس عليها سلباً أولاً وأخيراً، وتسفيهاً لدور الأسرة الدولية والاجتماعية، وتمييعاً للقيم والروابط الإنسانية، وتغييباً لدور الأديان وقيمها، وتدميراً للأخلاق والتسامح والوسطية في عقول وقلوب البشرية أينما وجدت.
من المؤكد أنه نادراً ما يذعن الشعب الأمريكي المتشكل من مجموع القارات الخمس لمكائد السياسة الأمريكية العميقة والظاهرة عندما يستمع للحقائق بين الحين والآخر، فالحرب والمراوغات الأمريكية لا تجري أو تُشن بناء على رغبات الشعب؛ بل بقرارات متخذة في عمق السياسة والساسة المديرين لها، وغالباً ما تجري عمليات تعمية لتضليل المجتمع الأمريكي وإبعاده عن عملية صنع القرارات، فالنظام العالمي "القديم الجديد" الذي دونته أمريكا على عملتها "الدولار" يواجه الآن تحديات جديدة قادمة من تطور عالم الجنوب، والذي كانت أمريكا والغرب يعتبران أن تنميته وتطويره سيشكل خطراً عليهما، لذلك استمرت عمليات تجهيله ومحاصرته والضغط عليه بالابتزاز السياسي والجنسي، أو بالفتن والإرهاب، أو بالتدخل المباشر، أو بالعقوبات والحصار الاقتصادي والسياسي والعسكري والاجتماعي، و يحدث هذا دون مراعاة حتى للقيم الديمقراطية أو لحرية التعبير،،هذه التي يعتبرها الغرب من أهم مبادئه، إلا أنه يمكن أن يدوسها، ويغيّر رأيه فيها، عندما تُملى عليه الاعتبارات السياسية والاقتصادية القادمة من الدولة العميقة.
أمريكا العميقة توظف الحروب لصالحها، تستعين بمسارات تطور التكنولوجيا الحديثة والمستحدثة والمنظرين لسياستها؛ الذين يدفعون بها للإيمان المستمر بأحقيتها في حكم العالم والهيمنة عليه، وأن من حقها على من يخالفها قلبه عبر الانقلابات، وعبر استخدام الاغتيالات والتمردات والاضطرابات المدنية والعسكرية والعقوبات الاقتصادية والحروب الخفية والعلنية، مستندة إلى عناصر الدعاية وتضخيمها ونشر ما تريد من خلال وسائطها التي تسيطر عليها سيطرة مطلقة.
هنا أختم بأن هذه الدولة العميقة عليها أن تصلح ذاتها كي تستمر، وإن لم تفعل فإنها ذاهبة، لامحالة، إلى التقسيم والتشرذم والاستسلام لحقائق التاريخ، فما من قوة عظمى إلا وهوت بعد حين.



عدد المشاهدات: 345

طباعة  طباعة من دون صور


رزنامة نشاطات المجلس
للأعلى